تحوّل الرأي العام في السودان: الأرقام تشرح ما يحدث
يشهد الرأي العام في السودان تحوّلًا واضحًا لم يعد من الممكن تجاهله. فمع استمرار الحرب وتعقّد المشهد الإنساني، بدأت اتجاهات اجتماعية جديدة تتشكّل داخل المجتمع السوداني، تعكس تغيّرًا في المزاج العام، وتكشف عن نظرة مختلفة للسياسة، والهوية، ومعنى الاستقرار. هذه التحولات لا تهم السودان وحده، بل ترتبط بمزاج أوسع في العالم العربي، حيث تتقاطع مشاعر الإحباط، والقلق، والبحث عن الكرامة.
ما تظهره البيانات الحديثة والنقاشات العامة، سواء عبر استطلاعات الرأي أو الفضاء الرقمي، هو أن المواطنين لم يعودوا ينظرون للأحداث من زاوية الصراع العسكري فقط، بل من زاوية أثره على النسيج الاجتماعي، ومستقبل الدولة، وإمكانية العيش المشترك. هذا المقال يحلل هذه التحولات بعمق، ويشرح لماذا أصبحت آراء الناس اليوم عاملًا لا يمكن تجاوزه.
ماذا تكشف البيانات عن الرأي العام؟
تعكس نتائج استطلاعات الرأي الأخيرة صورة مركّبة عن شعور السودانيين تجاه الوضع الحالي، خصوصًا فيما يتعلق بالأمن، والخدمات، ومستقبل الدولة.
تراجع الثقة بالخدمات وتفاقم الشعور بعدم الأمان
تشير المؤشرات إلى أن ما يزيد عن ثلثي المشاركين يرون أن الخدمات الأساسية لم تتحسن منذ اندلاع الحرب، بل ازدادت سوءًا في معظم المناطق المتأثرة. نسبة كبيرة عبّرت عن شعور متزايد بانعدام الأمن، خاصة في الأحياء الطرفية ومناطق النزوح، حيث تنتشر الجريمة ويضعف حضور أي سلطة منظمة.
الأخطر أن غالبية واضحة من المستطلَعين ترى أن الفئات الأكثر هشاشة جرى استغلالها خلال الحرب، سواء عبر التجنيد القسري أو الإغراءات الاقتصادية أو الخطاب القبلي. هذا الإحساس بالاستغلال ساهم، بحسب آراء واسعة، في تعميق التوترات الاجتماعية وإضعاف الثقة بين المكوّنات المحلية.
القلق من التفكك وفقدان الوحدة الوطنية
في ما يخص الطروحات السياسية، مثل احتمالات تشكيل حكومات موازية أو ترتيبات انتقالية جديدة، تنقسم الآراء بشكل حاد. شريحة معتبرة ترى هذه السيناريوهات مناورة سياسية لا تحمل رؤية حقيقية، بينما يعتبرها آخرون خيارًا اضطراريًا في ظل انسداد الأفق. لكن القاسم المشترك بين الفريقين هو الخوف من أن تؤدي هذه المسارات إلى انقسام فعلي للدولة وتكريس واقع التفكك.
من يشارك في تشكيل هذا الرأي؟
اللافت أن الفئة العمرية المتوسطة (من منتصف الثلاثينات إلى الخمسينات) تشكّل النسبة الأكبر من المشاركين، ما يعكس صوت جيل يحمل عبء المسؤوليات العائلية والاقتصادية. المدن الكبرى حاضرة بقوة في هذه الاستطلاعات، لكن هناك أيضًا مساهمات من سودانيين في الخارج، ما يشير إلى تداخل الرأي المحلي مع مزاج الجاليات وتأثير التجربة الاغترابية.
اتجاهات النقاش على وسائل التواصل الاجتماعي
إذا كانت الاستطلاعات تعكس الرأي المُنظّم، فإن وسائل التواصل تكشف الحالة الشعورية الخام.
الوسوم والنقاشات الرائجة
في الفضاء الرقمي العربي، تتناوب وسوم تدعو إلى السلام، ووقف الحرب، وحماية المدنيين مع أخرى تعبّر عن غضب شديد من القيادات السياسية والعسكرية. في بعض الفترات، تطغى لغة الوحدة والتعايش، وفي فترات أخرى تبرز نبرة الاتهام والانقسام.
مجموعات واتساب، على وجه الخصوص، أصبحت مساحات لتبادل أخبار الأمن اليومي، ونقص السلع، ومخاوف النزوح، إضافة إلى نقاشات حادة حول “من المسؤول”. هذه النقاشات غالبًا ما تعكس همومًا معيشية أكثر من كونها سجالات أيديولوجية.
تحولات المزاج العام
تحليل المزاج الرقمي يشير إلى تباين واضح: الشباب يميلون إلى التعبير عن الإحباط واللاجدوى، بينما تميل الفئات الأكبر سنًا إلى الدعوة للحذر والصبر وتجنّب الانزلاق نحو قطيعة اجتماعية. ومع ذلك، يجتمع الجميع تقريبًا حول مطلب واحد: الأمان والعيش بكرامة.
كيف يفسّر الخبراء هذا التحوّل؟
يرى محللون اجتماعيون أن ما يحدث هو نتيجة تراكم طويل لفقدان الثقة، وليس وليد اللحظة.
تآكل الثقة في المؤسسات
الحرب الممتدة، وانهيار الاقتصاد، وغياب الخدمات، أدت إلى تراجع الثقة في أي بنية رسمية. لم يعد المواطن يعلّق آمالًا كبيرة على وعود سياسية أو مبادرات بعيدة عن واقعه اليومي.
ضغط الهوية وتفكك الروابط
من منظور اجتماعي، أدت الحرب إلى إعادة تعريف الهويات المحلية. كثير من المجتمعات التي كانت مترابطة أصبحت تعيش تحت وطأة الشك والخوف. في المقابل، بدأت تظهر مبادرات مجتمعية تحاول ترميم الثقة من القاعدة، بعيدًا عن السياسة.
دور الإعلام والمعلومات المضللة
غياب المعلومة الموثوقة وانتشار الأخبار المضللة زادا من ارتباك الرأي العام. في بيئة يغيب فيها التحقق، تصبح المشاعر أقوى من الحقائق، ويصبح الغضب أرضًا خصبة للاستقطاب.
أصوات من الشارع السوداني
عند الاستماع لما يقوله الناس، تتضح الصورة الإنسانية خلف الأرقام:
- “نشعر أننا تُركنا لمصيرنا، لا أحد يسمعنا.”
- “الحديث عن السياسة لم يعد يهم بقدر الحديث عن الأمان والطعام.”
- “كنا جيرانًا، واليوم نخاف من بعضنا.”
- “السلام وحده لا يكفي، نحتاج عدالة تعترف بما حدث.”
هذه الأصوات تعبّر عن تعب جماعي، لكنها تحمل أيضًا رغبة صامتة في استعادة معنى المجتمع.
ماذا يعني ذلك للسياسة والمجتمع؟
تحديات الحكم
أي مسار سياسي قادم سيصطدم بجدار من الشك. الشرعية لم تعد تُكتسب بالشعارات، بل بقدرة ملموسة على تحسين حياة الناس.
فرص السلام وحدوده
البيانات تشير إلى أن الخوف من التفكك أكبر من الخلافات السياسية نفسها. لذلك، أي اتفاق لا يضع الوحدة المجتمعية في صلبه سيظل هشًا.
البعد الاقتصادي والاجتماعي
المطالب لم تعد نظرية. الناس يريدون خدمات، أمانًا، وفرص عيش. تجاهل هذه الأولويات قد يزيد من الاحتقان الاجتماعي.
الدلالة الإقليمية والدولية
ما يحدث في السودان يعكس مزاجًا عربيًا أوسع، حيث تتكرر مشاعر السخط من النخب، والبحث عن كرامة يومية، والشك في الحلول المفروضة من الخارج. لهذا تحظى آراء السودانيين باهتمام إقليمي ودولي متزايد، خاصة مع تداعيات النزوح وعدم الاستقرار.
انقسامات داخل الرأي العام
الرأي العام ليس كتلة واحدة:
- فجوة الأجيال: الشباب يطالبون بتغيير جذري، والكبار يخشون انهيار ما تبقى.
- المدينة مقابل الريف: المدن تركّز على السياسة، والريف على الأمن والخدمات.
- الداخل والخارج: المغتربون ينظرون للصورة الكبرى، والمقيمون يركّزون على النجاة اليومية.
الخلاصة: ما الذي يتغيّر فعلًا؟
التحوّل الأهم في الرأي العام السوداني هو انتقال الناس من انتظار الحلول إلى التشكيك فيها، ومن الانقسام السياسي إلى سؤال أعمق عن معنى الدولة والمجتمع.
المزاج العام اليوم خليط من الألم والأمل، من التعب والرغبة في الاستمرار. والسؤال المفتوح أمام صانعي القرار هو: هل سيُصغون لهذه الأصوات، أم ستظل مجرد أرقام في استطلاعات؟
أسئلة شائعة
لماذا يتغيّر الرأي العام في السودان الآن؟
بسبب الحرب الممتدة، وتدهور المعيشة، وفقدان الثقة في المؤسسات، ما دفع الناس لإعادة تقييم أولوياتهم.
كيف يرتبط ذلك بالمزاج العربي العام؟
لأن مشاعر الإحباط والبحث عن الكرامة تتكرر في عدة دول عربية، ما يجعل الحالة السودانية جزءًا من سياق أوسع.
ما دور وسائل التواصل في تشكيل الرأي؟
تلعب دورًا مزدوجًا: تعبير صادق عن الألم، ومنصة لتضخيم الانقسام أحيانًا.
هل يمكن للرأي العام التأثير في مسار الحلول؟
نعم، إذا أُخذ بجدية، لأنه يعكس الاحتياجات الحقيقية للمجتمع.
Related article: حكايات تحت الرماد: كيف يواجه السودانيون أزمات الحياة اليومية